فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال قَتَادَةُ: تَامَّةِ الْخَلْقِ وَغَيْرِ تَامَّةِ الْخَلْقِ.
وَقال مجاهد: مُصَوَّرَةٍ وَغَيْرِ مُصَوَّرَةٍ.
وَقال ابْنُ مَسْعُودٍ: «إذَا وَقَعَتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ فَقال: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً كُتِبَ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ».
وَقال أَبُو الْعَالِيَةِ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ السَّقَطُ.
قال أَبُو بَكْرٍ: قوله تعالى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} ظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَكُونَ الْمُضْغَةُ إنْسَانًا كَمَا اقْتَضَى ذَلِكَ فِي الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَنَا بِذَلِكَ عَلَى تَمَامِ قُدْرَتِهِ وَنَفَاذِ مَشِيئَتِهِ حِينَ خَلَقَ إنْسَانًا سَوِيًّا مُعَدَّلًا بِأَحْسَنِ التَّعْدِيلِ مِنْ غَيْرِ إنْسَانٍ، وَهِيَ الْمُضْغَةُ وَالْعَلَقَةُ وَالنُّطْفَةُ الَّتِي لَا تَخْطِيطَ فِيهَا وَلَا تَرْكِيبَ وَلَا تَعْدِيلَ الْأَعْضَاءِ، فَاقْتَضَى أَنْ لَا تَكُونَ الْمُضْغَةُ إنْسَانًا كَمَا أَنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ لَيْسَتَا بِإِنْسَانٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ إنْسَانًا لَمْ تَكُنْ حَمْلًا فَلَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ؛ إذْ لَمْ تَظْهَرْ فِيهَا الصُّورَةُ الإنسانيَّةُ وَتَكُونُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ؛ إذْ هُمَا لَيْسَتَا بِحَمْلٍ وَلَا تَنْقَضِي بِهِمَا الْعِدَّةُ بِخُرُوجِهِمَا مِنْ الرَّحِمِ.
وَقَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ الَّذِي قَدَّمْنَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ قال: «إذَا وَقَعَتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ فَقال: يَا رَبِّ مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا»، فَأَخْبَرَ أَنَّ الدَّمَ الَّذِي تَقْذِفُهُ الرَّحِمُ لَيْسَ بِحَمْلٍ، وَلَمْ يُفَرِّقْ مِنْهُ بَيْنَ مَا كَانَ مُجْتَمِعًا عَلَقَةً أَوْ سَائِلًا، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَظْهَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِ الإنسان فَلَيْسَ بِحَمْلٍ وَأَنَّ الْعِدَّةَ لَا تَنْقَضِي بِهِ؛ إذْ لَيْسَ هُوَ بِوَلَدٍ، كَمَا أَنَّ الْعَلَقَةَ وَالنُّطْفَةَ لَمَا لَمْ تَكُونَا وَلَدًا لَمْ تَنْقَضِ بِهِمَا الْعِدَّةُ.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قال: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قال: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ قال: حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ قال: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «إنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوما نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يُبْعَثُ إلَيْهِ مَلَكٌ فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ فَيُكْتَبُ رِزْقُهُ وَأَجَلُهُ وَعَمَلُهُ ثُمَّ يُكْتَبُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ».
فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ يَكُونُ أَرْبَعِينَ يَوما نُطْفَةً وَأَرْبَعِينَ يَوما عَلَقَةً وَأَرْبَعِينَ يَوما مُضْغَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّهَا لَوْ أَلْقَتْهُ عَلَقَةً لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ وَلَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنْ كَانَتْ الْعَلَقَةُ مُسْتَحِيلَةً مِنْ النُّطْفَةِ؛ إذْ لَمْ تَكُنْ لَهُ صُورَةُ الإنسانيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْمُضْغَةُ إذَا لَمْ تَكُنْ لَهَا صُورَةُ الإنسانيَّةِ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يَتَبَيَّنُ الإنسان مِنْ الْحِمَارِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانِ وُجُودُهُ عَلَى هذا الضَّرْبِ مِنْ الْبِنْيَةِ وَالشَّكْلِ وَالتَّصْوِيرِ، فَمَتَى لَمْ يَكُنْ لِلسِّقْطِ شَيْءٌ مِنْ صُورَةِ الإنسان فَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَقَةِ وَالنُّطْفَةِ سَواء فَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِعَدَمِ كَوْنِهِ وَلَدًا.
وَأَيْضًا فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَا أَسْقَطَتْهُ مِمَا لَا تَتَبَيَّنُ لَهُ صُورَةُ الإنسان دَمًا مُجْتَمِعًا أَوْ دَاءً أَوْ مُدَّةً.
فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ نَجْعَلَهُ وَلَدًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ، وَأَكْثَرُ أَحْوَالِهِ احْتِمَالُهُ لَأَنْ يَكُونَ مِمَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ وَلَدًا.
فَلَا نَجْعَلُهَا مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ بِهِ بِالشَّكِّ، وَعَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَدًا أَوْ لَا يَكُونُ مِنْهُ وَلَدًا سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا بِنَفْسِهِ فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْعَلَقَةَ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا وَلَدٌ وَكَذَلِكَ النُّطْفَةُ وَقَدْ تَشْتَمِلُ الرَّحِمُ عَلَيْهِمَا وَتَضُمُّهُمَا، وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ: «النُّطْفَةُ تَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوما نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوما عَلَقَةً»، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَعْتَبِرْ أَحَدٌ الْعَلَقَةَ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ.
وَزَعَمَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ قَوما ذَهَبُوا إلَى أَنَّ السِّقْطَ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا تَعْتِقُ بِهِ أُمُّ الْوَلَدِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ يَدًا أَوْ رِجْلًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، وَزَعَمَ أَنَّ هذا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْلَمَنَا أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ قَدْ دَخَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ كَمَا ذَكَرَ الْمُخَلَّقَةَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ الْوَلَدُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ فَهُوَ حَمْلٌ، وَقال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ إغْفَالٌ مِنْهُ لِمُقْتَضَى الآية، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يُخْبِرْ أَنَّ الْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ وَلَدٌ وَلَا حَمْلٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ النُّطْفَةِ وَمِنْ التُّرَابِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ حِينَ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ الْمُضْغَةِ وَالْعَلَقَةِ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ نُطْفَةً وَلَا عَلَقَةً وَلَا مُضْغَةً؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْعَلَقَةُ وَالْمُضْغَةُ وَالنُّطْفَةُ وَلَدًا لَمَا كَانَ الْوَلَدُ مَخْلُوقًا مِنْهَا؛ إذْ مَا قَدْ حَصَلَ وَلَدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُقال قَدْ خُلِقَ مِنْهُ وَلَدٌ وَهُوَ نَفْسُهُ ذَلِكَ الْوَلَدُ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي لَمْ يَسْتَبِنْ فِيهَا خَلْقُ الإنسان لَيْسَ بِوَلَدٍ.
وَقوله: «إنَّ اللَّهَ أَعْلَمَنَا أَنَّ الْمُضْغَةَ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ قَدْ دَخَلَتْ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ الإنسان كَمَا ذَكَرَ الْمُخَلَّقَةَ» فَإِنَّهُ إنْ كَانَ هذا اسْتِدْلَالًا صَحِيحًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يقول مِثْلَهُ فِي النُّطْفَةِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ ذَكَرَهَا فِيمَا ذَكَرَ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ كَمَا ذَكَرَ الْمُضْغَةَ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ النُّطْفَةُ حَمْلًا وَوَلَدًا لِذِكْرِ اللَّهِ لَهَا فِيمَا خَلَقَ النَّاسَ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ أَنَّهُ خَلَقَنَا مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ وَالْمُخَلَّقَةُ هِيَ الْمُصَوَّرَةُ وَغَيْرُ الْمُخَلَّقَةِ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يقول خَلَقَكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ مُصَوَّرَةٍ مَعَ كَوْنِ الْمُصَوَّرَةِ وَلَدًا لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ غَيْرُ الْمُصَوَّرَةِ وَلَدًا مَعَ قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ مُضْغَةٍ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
قِيلَ لَهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمُخَلَّقَةِ مَا ظَهَرَ فِيهِ بَعْضُ صُورَةِ الإنسان فَأراد بِقوله: خَلَقَكُمْ مِنْهَا تَمَامَ الْخَلْقِ وَتَكْمِيلِهِ، فَأَمَا مَا لَيْسَ بِمُخَلَّقَةٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْفَةِ لِعَدَمِ الصُّورَةِ فِيهَا، فَيَكُونُ مَعْنَى قوله: خَلَقَكُمْ مِنْهَا أَنَّهُ أَنْشَأَ الْوَلَدَ مِنْهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا قَبْلَ ذَلِكَ.
هذا هو حَقِيقَةُ اللَّفْظِ وَظَاهِرُهُ.
وَأَمَا قوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مُرَادَهُ وَضْعُ الْوَلَدِ، فَمَا لَيْسَ بِوَلَدٍ فَلَيْسَ بِمُرَادٍ، وَهذا لَا يُشْكَلُ عَلَى أَحَدٍ لَهُ أَدْنَى تَأَمُّلٍ.
وَقال إسْمَاعِيلُ أَيْضًا: لَا تَخْلُو هَذِهِ الْمُضْغَةُ وما قَبْلَهَا مِنْ الْعَلَقَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ وَلَدًا أَوْ غَيْرَ وَلَدٍ، فَإِنْ كَانَتْ وَلَدًا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ فَحُكْمُهَا قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ وَبَعْدَهَا وَاحِدٌ وَإِنْ كَانَتْ لَيْسَتْ بِوَلَدٍ إلَى أَنْ يُخْلَقَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ الْوَلَدُ أَبَاهُ إذَا مَاتَ حِينَ تَحْمِلُ بِهِ أُمُّهُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَهذا إغْفَالٌ ثَانٍ وَكَلَامٌ مُنْتَقَضٌ بِإِجْمَاعِ الْفُقَهَاءِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ إذَا مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ وَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَيْنِ أَوْ لِأَرْبَعِ سِنِينَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْحَمْلِ أَرْبَعَ سِنِينَ أَنَّ الْوَلَدَ يَرِثُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا كَانَ نُطْفَةً وَقْتَ وَفَاةِ الْأَبِ وَقَدْ وَرِثَهُ.
وَمَعَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ النُّطْفَةَ لَيْسَتْ بِحَمْلٍ وَلَا وَلَدٍ وَأَنَّهُ لَا تَنْقَضِي بِهَا الْعِدَّةُ وَلَا تَعْتِقُ بِهَا أُمُّ الْوَلَدِ، فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ اعْتِلَالِ وَانْتِقَاضُ قوله، وَلَيْسَتْ عِلَّةُ الْمِيرَاثِ كَوْنَهُ وَلَدًا؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ هُوَ وَلَدٌ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ فِي الْأُمِّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مِنْ مَائِهِ فَيَرِثُهُ إذَا كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْفِرَاشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ الزِّنَا لَمْ يَلْحَقْ نَسَبُهُ بِالزَّانِي وَكَانَ ابْنًا لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ؟ فَالْمِيرَاثُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُهُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ لَا بِأَنَّهُ مِنْ مَائِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الزِّنَا لَا يَرِثُ الزَّانِيَ لِعَدَمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وَإِنْ كَانَ مِنْ مَائِهِ؟ فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ لَيْسَ بِمتعلق بـ كَوْنِهِ وَلَدًا مِنْ مَائِهِ دُونَ حُصُولِ النِّسْبَةِ إلَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا.
قال إسْمَاعِيلُ: فَإِنْ قِيلَ إنَّمَا وَرِثَ أَبَاهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ حِينَ صَارَ حَيًّا يَرِثُ وَيُورَثُ.
قِيلَ لَهُ: فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَإِنْ تَمَّ خَلْقُهُ حَتَّى يَخْرُجَ حَيًّا.
قال أَبُو بَكْرٍ: وَهذا تَخْلِيطٌ وَكَلَامٌ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خَصْمَهُ لَمْ يَجْعَلْ وُجُوبَ الْمِيرَاثِ عِلَّةً لِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَكَوْنِ الْأُمِّ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَهذا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا يَرِثُ، وَقَدْ يَرِثُ الْوَلَدُ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ: إذَا كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدَانِ فَوَضَعَتْ أَحَدَهُمَا وَرِثَ هذا الْوَلَدُ مِنْ أَبِيهِ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ الآخر.
فَإِنْ وَضَعَتْهُ مَيِّتًا لَمْ يَرِثْهُ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِهِ، فَلَمَا كَانَ الْمِيرَاثُ قَدْ يَثْبُتُ لِلْوَلَدِ وَلَا تَنْقَضِي الْعِدَّةُ بِوَضْعِهِ وَقَدْ تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَا يَرِثُ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَيْسَ بِأَصْلٍ لِلْآخَرِ وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُهُ بِهِ.
ثُمَّ قال إسْمَاعِيلُ: فَإِنْ قِيلَ إنَّهُ حَمْلٌ وَلَكِنا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُتَعَبَّدَ اللَّهُ بِحُكْمٍ لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ، وَالنساء يَعْرِفْنَ ذَلِكَ وَيُفَرِّقْنَ بَيْنَ لَحْمٍ أَوْ دَمٍ سَقَطَ مِنْ بَدَنِهَا أَوْ رَحِمِهَا وَبَيْنَ الْعَلَقَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ، وَلَا يَلْتَبِسُ عَلَى جَمِيعِ النساء لَحْمُ الْمَرْأَةِ وَدَمُهَا مِنْ الْعَلَقَةِ بَلْ لابد مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِنَّ مَنْ يَعْرِفُ، فَإِذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أَنَّهَا عَلَقَةٌ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَقَدْ قال الشَّافِعِيُّ أَيْضًا إنَّهَا إذَا أَسْقَطَتْ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّهُ يُرَى النساء، فَإِنْ قُلْنَ كَانَ يَجِيءُ مِنْهَا الْوَلَدُ لَوْ بَقِيَتْ انْقَضَتْ بِهِ الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ بِهَا الِاسْتِيلَادُ، وَإِنْ قُلْنَ لَا يَجِيءُ مِنْ مِثْلِهَا وَلَدٌ لَمْ تَنْقَضِ بِهِ الْعِدَّةُ وَلَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِيلَادُ.
وَعَسَى أَنْ يَكُونَ إسْمَاعِيلُ إنَّمَا أَخَذَ مَا قال مِنْ ذَلِكَ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَهُوَ مِنْ أَظْهَرِ الْكَلَامِ اسْتِحَالَةً وَفَسَادًا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعَلَقَةِ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ وَبَيْنَ مَا لَا يَكُونُ مِنْهَا الْوَلَدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَاهَدَ عَلَقًا كَانَ مِنْهُ الْوَلَدُ وَعَلَقًا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ الْوَلَدُ فَيُعْرَفُ بِالْعَادَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَا كَانَ مِنْهُ وَلَدٌ وما لَمْ يَكُنْ مِنْهُ وَلَدٌ بِعَلَامَةٍ تُوجَدُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الآخر فِي مَجْرَى الْعَادَةِ وَأَكْثَرِ الظَّنِّ، كَمَا يَعْرِفُ كَثِيرٌ مِنْ الْإعراب السَّحَابَةَ الَّتِي يَكُونُ مِنْهَا الْمَطَرُ وَالسَّحَابَةَ الَّتِي لَا يَكُونُ مِنْهَا الْمَطَرُ وَذَلِكَ بِمَا قَدْ عَرَفُوهُ مِنْ الْعَلَامَاتِ الَّتِي لَا تَكَادُ تُخْلِفُ فِي الْأَعَمِّ الْأَكْثَرِ، فَأَمَا الْعَلَقَةُ الَّتِي كَانَ مِنْهَا الْوَلَدُ فَمُسْتَحِيلٌ أَنْ يُشَاهِدَهَا إنْسَانٌ قَبْلَ كَوْنِ الْوَلَدِ مِنْهَا مُتَمَيِّزَةً مِنْ الْعَلَقَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مِنْهَا وَلَدٌ، وَذَلِكَ شَيْءٌ قَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ إلَّا مَنْ أَطْلَعَ عَلَيْهِ مِنْ مَلَائِكَتِهِ حِينَ يَأْمُرُهُ بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ، قال اللَّهُ تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وما تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وما تَزْدَادُ}.
وَقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ شَيْءٍ جَلَّ وَتعالى، وَلَكِنهُ خَصَّ نَفْسَهُ بِالْعِلْمِ بِالْأَرْحَامِ فِي هذا الْمَوْضِعِ إعْلَامًا لَنَا أَنَّ أَحَدًا غَيْرَهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ وَأَنَّهُ مِنْ عِلْمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ وَمَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ، قال اللَّهُ تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
المسألة الأولى:
قوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} يَعْنِي آدَمَ، {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} يَعْنِي وَلَدَهُ، وَهُوَ الْمَنِيُّ سُمِّيَ نُطْفَةً لِقِلَّتِهِ، وَهُوَ الْقَلِيلُ مِنْ الماء {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} يَعْنِي قِطْعَةً صَغِيرَةً مِنْ دَمٍ.
{ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} يَعْنِي ثُمَّ مِنْ جُزْءٍ مُخَثَّرٍ يُشْبِهُ اللُّقْمَةَ الَّتِي مُضِغَتْ.
وَقوله: {مُخَلَّقَةٍ} فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: صَارَتْ خَلْقًا، وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ مَا قَذَفَتْهُ الرَّحِمُ نُطْفَةً؛ قالهُ ابْنُ مَسْعُودٍ.
الثَّانِي: تَامَّةُ الْخَلْقِ، وَغَيْرُ تَامَّةِ الْخَلْقِ قال قَتَادَةُ.
الثَّالِثُ: مَعْنَاهُ مُصَوَّرَةٌ وَغَيْرُ مُصَوَّرَةٍ كَالسَّقْطِ قالهُ مُجَاهِدٌ.
الرَّابِعُ: يُرِيدُ تَامَّةَ الشُّهُورِ، وَغَيْرَ تَامَّةٍ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
قَدْ قَدَّمْنَا شَيْئًا مِنْ الْقَوْلِ فِي هذا الْغَرَضِ، وَنَحْنُ الْآنَ نُفِيضُ فِيهِ بِمَا إذَا اتَّصَلَ بِمَا فِي سُورَةِ الرَّعْدِ كَانَ بَيَانًا لِلْمَسْأَلَةِ وَعِرْفَانًا، فَنَقُولُ: فِي ذَلِكَ رِوَايَاتٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَقْوَالٌ عَنْ السَّلَفِ: فَأَمَا الرِّوَايَاتُ فَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهَا وَنُعِيدُ مِنْهَا هاهُنَا الرِّوَايَةَ الأولى: رَوَى يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُد عَنْ عَامِرٍ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ نَحْوه، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النُّطْفَةَ إذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، فَقال: أَيْ رَبِّ؟ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ قال دَاوُد: وَشُكِّلَتْ فِي الْخَلْقِ وَالْخُلُقِ، فَيُقال لَهُ: انْطَلِقْ إلَى أُمِّ الْكِتَابِ، فَإِنَّك تَجِدُ فِيهَا قِصَّةَ هَذِهِ النُّطْفَةِ، فَيَنْطَلِقُ فَيَجِدُ قِصَّتَهَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ تَتَخَلَّقُ فَتَأْكُلُ رِزْقَهَا، وَتَطَأُ أَثَرَهَا، فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهَا قُبِضَتْ فَدُفِنَتْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي قُدِّرَ لَهَا، ثُمَّ قرأ عَامِرٌ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنْ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}.
الثَّانِيَةُ: مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ دَاوُد بِمِثْلِهِ، قال عَبْدُ اللَّهِ: إذَا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَةُ فِي الرَّحِمِ أَدَارَهَا مَلَكٌ بِكَفِّهِ، وَقال: أَيْ رَبِّ، مُخَلَّقَةٌ أَوْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ؟ قال: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُخَلَّقَةٍ قَذَفَتْهَا الْأَرْحَامُ دَمًا، وَإِنْ كَانَتْ مُخَلَّقَةً قال: أَيْ رَبِّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الرِّزْقُ؟ مَا الْأَثَرُ؟ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ؟ وَآثَارُ السَّلَفِ أَرْبَعَةٌ: الْأَوَّلُ: قال عَامِرٌ فِي النُّطْفَةِ وَالْعَلَقَةِ وَالْمُضْغَةِ: فَإِذَا انْتَكَسَتْ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ كَانَتْ نَسَمَةً مُخَلَّقَةً، وَإِذَا قَذَفَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ.
الثَّانِي: قال أَبُو الْعَالِيَةِ: غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ: السَّقْطُ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ.
الثَّالِثُ: قال قَتَادَةُ: تَامَّةٌ وَغَيْرُ تَامَّةٍ.
الرَّابِعُ: قال ابْنُ زَيْدٍ: الْمُخَلَّقَةُ الَّتِي خَلَقَ فِيهَا الرَّأْسَ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ.
وَغَيْرُ مُخَلَّقَةٍ الَّتِي لَمْ يَخْلُقْ فِيهَا شَيْئًا.
المسألة الثَّالِثَةُ:
قال الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: إنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى السَّقْطِ، وَيقول: سَمُّوهُمْ وَاغْسِلُوهُمْ، وَكَفِّنُوهُمْ وَحَنِّطُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ بِالْإِسْلَامِ صَغِيرَكُمْ وَكَبِيرَكُمْ، وَيَتْلُو هَذِهِ الآية: {إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، لَمْ يَسْتَتِمَّ سَائِرُ خَلْقِهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَلْقًا تامًّا.
المسألة الرَّابِعَةُ:
إذَا رَجَعْنَا إلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ فَإِنَّ النُّطْفَةَ وَالْعَلَقَةَ وَالْمُضْغَةَ مُخَلَّقَةٌ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ خَلْقُ اللَّهِ، وَإِذَا رَجَعْنَا إلَى التَّصْوِيرِ الَّذِي هُوَ مُنْتَهَى الْخِلْقَةِ كَمَا قال: ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَذَلِكَ مَا قال ابْنُ زَيْدٍ: إنَّهَا الَّتِي صُوِّرَتْ بِرَأْسٍ وَيَدَيْنِ وَرِجْلَيْنِ، وَبَيْنَهَا حَالَاتٌ.
فَأَمَا النُّطْفَةُ فَلَيْسَتْ بِشَيْءٍ يَقِينًا، وَأَمَا إنْ تَلَوَّنَتْ فَقَدْ تَخَلَّقَتْ فِي رَحِمِ الْأُمِّ بِالتَّلْوِينِ، وَتَخَلَّقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّخْثِيرِ؛ فَإِنَّهُ إنشاء بَعْدَ إنشاء.
وَيَزْعُمُ قَوْمٌ أَنَّ مَعَ التَّخْثِيرِ يَظْهَرُ التَّخْطِيطُ وَمِثَالُ التَّصْوِيرِ، فَلِذَلِكَ شَكَّ مَالِكٌ فِيهِ، وَقال: وَمِنْ رَأْيِي مَنْ يُعْرَفُ أَنَّهُ سَقْطٌ فَهُوَ الَّذِي تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ.
وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ، وَشَرْحُ الْحديث فِي كِتَابِ الْحَيْضِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.
وَعَلَى هذا يُحْمَلَ مَا جَاءَ مِنْ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ عَلَى الْمُخَلَّقِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقِ، وَعَلَى التَّامِّ وَالنَّاقِصِ.
وَلَعَلَّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ أراد السَّقْطَ مَا تَبَيَّنَ خَلْقُهُ فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى، وما لَمْ يَتَبَيَّنْ خَلْقُهُ فَلَا وُجُودَ لَهُ، وَالِاسْمُ فِيهِ دُونَ مَوْجُودٍ يُسَمَّى وَبِمَاذَا تَكُونُ الْوَلَدُ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَاَللَّهُ يَنْفَعُنَا بِعِزَّتِهِ.
المسألة الْخَامِسَةُ:
إذَا ثَبَتَ هذا فَإِنَّ عِدَّةَ الْمَرْأَةِ تَنْقَضِي بِالسَّقْطِ الْمَوْضُوعِ، ذَكَرَهُ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي، وَاحْتَجَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ حَمْلٌ، وَقَدْ قال اللَّهُ: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، وَكَذَلِكَ قال: لَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَلَا يَرْتَبِطُ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُخَلَّقًا لِقوله تعالى: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ}، فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَلْقٌ، كَمَا أَنَّهُ حَمْلٌ.
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمُضْغَةٍ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى تَنْبِيهًا عَلَى الْقُدْرَةِ.
قُلْنَا: فَأَيْنَ الْمَقْدُورُ الَّذِي تَعَلَّقَتْ بِهِ الْقُدْرَةُ؟ هَلْ هُوَ تَصْرِيفُ الْوَلَدِ بَيْنَ الْأَحْوَالِ، وَنَقْلِهِ مِنْ صِفَةٍ إلَى صِفَةٍ؟ فَذَكَرَ أَنَّ أَصْلَهُ النُّطْفَةُ، ثُمَّ تَتَدَاوَلُهُ الصِّفَاتُ، فَيَكُونُ خَلْقًا وَحَمْلًا.
قال الْمُعْتَرِضُ: وَالْمُرَادُ بِقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ} مَا يُسَمَّى وَلَدًا.
قُلْنَا: بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَا يُسَمَّى حَمْلًا وَخَلْقًا لِشَغْلِ الرَّحِمِ؛ فَإِذَا سَقَطَ بَرِئَتْ الرَّحِمُ مِنْ شُغْلِهَا.
قال الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ أَنَّهُ يَرِثُ أَبَاه. فَدَلَّ عَلَى وُجُودِهِ خَلْقًا، وَكَوْنِهِ وَلَدًا وَحَمْلًا.
قال الْمُعْتَرِضُ: لَا حُجَّةَ فِي الْمِيرَاثِ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ كَوْنِهِ نُطْفَةً.
قُلْنَا لَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْقًا مَوْجُودًا، وَلَا وَلَدًا مَحْسُوبًا مَا أُسْنِدَ مِيرَاثُهُ إلَى حَالٍ وَلَا قُضِيَ لَهُ بِهِ. اهـ.